في المقهى الذي اعتدتَ ارتيادَه لتشربَ قهوتَكَ السوداء وتستعيدَ أوصالك المبعثرة في صباحاتِ الأحد المتلكّئةِ كالأماني، سمعتَ شخصًا يكلّم بهاتفه المحمول، كما يبدو، امرأةً على الطرفِ الآخر من الخطِّ ، فلم تعرف، فعلًا، إن كانَ يكلّم امرأةً، أو يُمثِّل أنَّه يتكلم، فمكلمو أنفسهم، هنا، لا يثيرون انتباهًا ولا يتوقف أحدٌ عند مونولوغاتهم الطويلة، لكنَّ لغته المُلَغَّزة التي لا يسمعُها المرءُ كثيرًا في مدينةٍ ترطنُ، مع ذلك، بمئةِ لسان هي التي كسرتْ قاعدةً مرعيةً تقول: ما تسمعه هنا أتركه هنا، هكذا سمعته يقول إنه يجلسُ، الآن، في مقهاه الذي اعتادَ ارتيادَه في صباحاتِ الأحدِ المتلكّئةِ كالأماني ثم سمعته يقول إنه لا يفعلُ شيئًا سوى احستاء قهوته السوداء واستجماع أوصاله المبعثرة ثم سمعته يقول إنه لاذَ بالصمت لأنَّ تلك الكلمة أخذته على حين غرَّةٍ فهو توقّعَ، بالطبع، شيئًا قريبًا منها ولكن ليسَ تلك الكلمة التي لا تُقال إلاّ عندما تبلغُ القلوبُ الحناجرَ، ثم طرأتْ انعطافةٌ حادّةٌ في الكلام أحسسّتَ برَجَّتها في حجابِك الحاجز حين قال إنه مشتاقٌ، والله مشتاقٌ، ثم استدركَ، بتغيرٍ ملحوظٍ في نبرته، إلى صوتكِ طبعًا، متذكّرًا صديقًا له فلسفةٌ خاصةٌ في أنطولوجية الأصوات سيشرحُها ربّما في ما بعد، ثم قال إنّ صوتها ساحرٌ، لا ليس ساخرًا، ساحرٌ، مُنوِّناً الراء كضربةِ صنج. بحَّةٌ؟ نعم فيه بحَّةٌ مُغويةٌ وهذا أدعى إلى الحذر لأنّ للمذيعاتِ المتوارياتِ وراء الراديو في برامج منتصفِ الليل تلك البحَّة أيضًا، ثم لاحظتَ أنّ فترات صمتِ الرجل على هاتفٍ يصبُّ فيه بوحٌ مُتردِّدٌ من جهتين صارتْ تطولُ، وجسدَه راحَ يرتفعُ عن الكرسيِّ ويحلِّق في الهواءِ الفاتِر.
عدمُ اهتمام
تظنّ أنَّ الذين تمرّ بهم كوعلٍ مذعورٍ في لقطةٍ بطيئةٍ لا يرونك، فالبقّالُ يواصلُ رفعَ الأوراق النقديّة إلى عينيه الضيقتين للتأكّد من سريان المادّة التي تحفظها من الفساد، ومصففةُ الشَعر التي كانت فتاةَ غلافِ مجلةٍ محليِّةٍ في السعبينات تنحني على رؤوسٍ مُسنّاتٍ مستسّلماتٍ لمقصّها الغضوب والمشرّدُ الخلاسيُّ الذي يهرولُ بين محلِ الرّهانات وناصيةِ الشارع لا يتذكّر أنّك نفتَحه شيئًا في الذهاب فيطالبُك بحصّته التي قرَّرها، من جانبٍ واحدٍ، في جيبك المثقوب في الإياب، إنس، طبعاً، النادلة الحسناء التي تطلبُ منها يوميًا نفس كوب القهوةِ السوداء بقطعتينِ من السّكر، ولكن جرِّب أن تخرج عن هذا المدارِ قليلًا لترى كم كنتَ قريبًا من أنفاسٍ باردةٍ تركتْ ندبًا على جسدٍ تنساه، أحيانًا، في آخرِ قطارٍ يشقُّ الليل.
هل غادرَ الشعراء..
ليسَ عليَّ أن أستغربَ توّصلَ الشعراء والحدَّادين ولاعبي السيرك والرعاة الى أفكارٍ متشابهةٍ، وأحيانًا إلى حدِّ التّطابق، فأنا أعرفُ أنَّ الشّعراء والحدَّادين ولاعبي السيرك والرعاة يتوصَّلون الى أفكار متشابهة وأحيانًا إلى حدِّ التطابق. فمثلًا، بعد فترة على كتابتي قصيدةَ نثرٍعن شخصٍ يُشبهني، ليسَ ذاكَ الذي يحملُ اسمي نفسَه وطوّحَته الريحُ الشرقيةُ الى تَمبكتو، بل الذي ينظرُ اليَّ في المرآة بعينينِ أعرفُ تقلباتهما حتّى الملل، انتبهتُ الى أنني أعيدُ كتابةَ حكايةٍ مركونةٍ في زاويةٍ مهملةٍ من ذاكرتي، لا أعرفُ تفاصيلَها ولا مَنْ رواها ولكنَّ حطامَ هيكَلها المتداعي تجمَّعَ في تلكَ الزاويةِ المهملةِ من ذاكرتي، فالوحدةُ والانفصامُ بين الشّخصِ وقرينِه هما هما في الحالتين وها إنني أقرأ اليوم، بالضّبط، قصيدةَ نثرِ، أيضاً، لشاعرِ أمريكي يدعى فرانك بيدارت تتخاطرُ مع قصيدتي الى حدٍّ مخيف. ليسَ هذا إعلان براءة ذمّة ماكراً لمن يريدُ قصَّ الأثر إلى قصيدتي، ففي نهايةِ المطاف مَنْ أنا غير أنا وأنت، ولكنّه صدى ذلك الصوت القادم من وراءِ القرون والرمال المتحرّكة القائل بنبرةٍ متأسّية: هل غادر الشعراءُ من متردَّمِ....
كتابٌ مسموم
لاهيًا عن الدقائقِ التي تطنُّ في برجِ الساعة يقلِّبُ ملكٌ، بين صليلِ السّيوف وهفْهَفةِ ثيابِ عشيقاتِ الخِلسة، كتابًا ملتصقَ الصفحات وضعتهُ أمُّهُ عند سريرِ غريمهِ على عَرشٍ مُرصَّعٍ بعظامِ التراقي. الكتابُ أخضرُ، فمن يشكُّ في كتابٍ أخضر، أمّا الغريمُ المزعومُ فليسَ سوى صديقه الذي أنقذَه من نابِ الخنزير البريِّ عندما كانتْ سيوفُ المَكيدةِ مُطمنئةً الى شِفرتها القاطِعة لكن في ليلِ الخيانةِ المحبوكةِ جيدًا بخيوطٍ رفيعةٍ من الحريرِ والزِرنيخ لا تكفي حرارةُ اليد التي تربِّتُ على كتفكَ كي تعرفَ من معك ومن عليك. بابهامٍ مبللٍ بطرفِ اللسان وأنفاسٍ تدفعُ عقاربَ الساعةِ إلى الرنَّة الأخيرةِ يتذوقُ الملكُ مصيرًا طبخته لغيرِه عاطفةٌ عمياءُ في أبردِ قدورِها، يتلوّى من ضحكٍ لا يشبهُ ضحكًا آخرَ، متساءلًا عن سرِّ التصاقِ الصفحات فيأتيه الجوابُ على شكلِ زبدٍ طافحٍ من فمِ كلبِه الوفي. الكتابُ في مكانِه الصحيح. السمُّ كاملُ الدسم، لكن الذي راحَ ينتزعُ الصفحاتِ الملصوقةَ بذرق الشيطان كانَ الشخص الخطأ.
طريقٌ مرقَّطة إلى الليل
"شينٌ" و"عينٌ" و"دالٌ" الذين التقيتَهم في الطريق المرقَّطة الى الليل أسدلوا تِباعًا جفونًا ثقيلةً على صورٍ لن تعرفها قطُّ ، بعدما تناوبْتَ مع "عين" و"صاد" على قراءةِ ما تيّسر من قصارِ السُور عند رأسِ "شين" المُسجَّى في غرفةِ المُحتضرين، ذلك أنَّ "شين" ترعّرعَ في زمنٍ مأخوذٍ بمَثلٍ سائرٍ يقولُ كلّ بابليٍّ شاعرٌ حتّى يثبتَ العكس لكنّه ماتَ بعد فاصلٍ قصيرٍ من الكوما ولم يعرفْ اسمًا لتلك الظُلمة الهاطلةِ في الأعماق، ثم دخل "عين" في احتضارٍ طويلٍ بعد أن أتتْ بلهارسيا النيل على كبدِه وظلَّ جسدُهُ النحيلُ الذي تتردَّدُ فيه أنفاسٌ ضعيفةٌ آيةً في الصّبر، ولم تقرأ عند سريره مع "دال" آيةً من القرآن لأن "عين" تمسَّك بماديّته التاريخيّة حتّى آخر لحظة غير أن "دال" (ولم تجرؤ أنتَ على ذلك) غسَّله وكفّنه كمسلمٍ لم يقطعْ فرضاً، ولعلّه قرأ في سرِّه آيةً أو دعاءً، فهو لم يتصوّر كيفَ يموتُ المرءُ من دون أن يعرفَ على أيِّ وجهٍ سيُحشرُ عندما تُنفخُ الأبواقُ، لستَ وحدَك من فاجأه موت "دال"، فهذا الذي وضعته أمّه في أرضٍ مفخَّخةٍ كان يعرفُ متى وأين ينقِّلُ خطاه فكيفَ وقعَ تلك الوقعة التي لا يفعلها إلاّ من يتركُ مصيرَه لقدميه. "شين" و"عين" و"دال" الذين التقيتَهم في الطريق المرقَّطة الى الليل أسدلوا تباعًا جفونًا ثقيلةً على صورٍ لن تعرفَها قطّ لكنّك لن تستبعدَ أن تكونَ صورةً جانبيةً لشخصٍ بأنفٍ أفطسَ واسمٍ مستعارٍ قد وصلت هناك.
ليسَ بلا سبب!
وها أنتَ تجلسُ في هذا المقهى الذي ما مررّتَ به إلا وتراءتْ لكَ وجوهٌ تستدير، عيونٌ تحدجُ، أيدٍ تمسّد شَعراً، تتلفّتُ جانبك وراءك فلا ترى أحدًا أنتَ فقط من يمخرُ هواءً مخمورًا بعطرٍ نسائيٍّ متروك، تصعدُ درجًا يشطرُ المقهى نِصفين ولا تجلس، مرّة لأنّكَ نسيتَ تبغَك، وثانيةً لأنّ لحيتكَ نامية، وثالثةً لأنّكَ على موعدٍ عاجلٍ مع الريح، اليوم جئتَ بلحيةٍ حليقةٍ وتبغكَ معك، هبطتَ الدرج، طلبتَ قهوةً سوداء من نادلةٍ مُهاجرةٍ تترّنم بأغنيةٍ سلافيةٍ وجلستَ إلى طاولةٍ غادرها رجلٌ غاضبٌ قال لرفيقتِه الشابّة وهو ينهض بقفزةٍ واحدة: لا شيء يحدثُ بلا سبب!